البلوك تشين يمكنه حل واحدة من أكبر مشكلات الشفافية في الحكومات
نموذج جديد من الجامعة الأمريكية في الشارقة يُظهر كيف يمكن لتقنية البلوك تشين أن تُحدث ثورة في شفافية الإنفاق العام ويضع دولة الإمارات في موقع الريادة لعصر جديد من الحوكمة الرقمية الشفافة

مقال ضيف بقلم الدكتور عيد العتيبي، مدرس مساعد في قسم المحاسبة في مدرسة إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية في الشارقة
في زمن تتراجع فيه ثقة الناس بالمؤسسات حول العالم، لم تعد الشفافية مجرد قيمة مضافة، بل ضرورة. وبالنسبة للحكومات تحديداً، فإن القدرة على إظهار المساءلة والانفتاح يمكن أن تعزز الشرعية أو تُقوضها بالكامل.
واحدة من أكثر الثغرات شيوعاً في الشفافية تكمن في مجال المشتريات الحكومية. ففي جميع أنحاء العالم، حتى في الديمقراطيات الناضجة، غالباً ما تكون البيانات المتعلقة بكيفية إنفاق الأموال العامة مجزأة، أو غير مفصح عنها بشكل متسق، أو يصعب الوصول إليها من قبل المواطن العادي. في الولايات المتحدة، حيث ركّزت أبحاثي الأخيرة، تم توثيق هذه المشكلة بوضوح. فبالرغم من عقود من محاولات الإصلاح وأدوات مثل USAspending.gov، لا تزال إمكانية الوصول إلى معلومات الإنفاق الفيدرالي المفصلة وفي الوقت المناسب محدودة. كثيراً ما تؤخر الوكالات نشر البيانات، أو تُخفي تفاصيل العقود، أو تعتمد على أنظمة قديمة تعرقل الشفافية الكاملة.
وقد أشارت تقارير صادرة عن مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي إلى وجود مشكلات تتراوح بين بيانات غير موثوقة، وأخطاء تصنيف، وتأخر في التقارير. وفي بعض الحالات، تكون تفاصيل العقود غائبة بالكامل عن قواعد البيانات العامة لعدة أشهر. وقد تم انتقاد منصات مثل نظام بيانات المشتريات الفيدرالية بسبب التناقضات وصعوبة الاستخدام، ما يقيّد رقابة الجمهور ويُضعف الثقة في كيفية استخدام أموال دافعي الضرائب. ولمعالجة هذه التحديات وغيرها، بدأت العمل على نموذج قدّم حلاً عملياً.
النتيجة كانت «البلوك تشين الحكومي»، وهي إطار قائم على تقنية البلوك تشين، طورته أنا وفريقي في الجامعة الأمريكية في الشارقة، لجعل الإنفاق الحكومي قابلاً للتتبع، وغير قابل للتلاعب، ومتاحاً لجميع أصحاب المصلحة. يعتمد النموذج على مبادئ الحكومة المفتوحة، ويُعيد تصوّر كيفية مشاركة البيانات.
نُشرت الدراسة مؤخراً في مجلة International Journal of Information Management Data Insights المصنفة ضمن أعلى 1% من المجلات في مجالها عالمياً. استخدمنا فيها منهجية «البحث العلمي من خلال التصميم» التي تهدف إلى ابتكار حلول عملية لمشكلات واقعية. اعتمدنا على منصة Hyperledger Fabric مفتوحة المصدر، وطبّقنا النموذج على سير عمل المشتريات الحكومية لاختبار مدى فعاليته في تتبع اختيار العطاءات وإشراك أطراف مثل البائعين، والمقاولين، والمدققين، والمنظمين. وكانت النتائج واضحة: زادت الشفافية، وحُفظت سلامة البيانات، وتقلّصت فرص التلاعب أو الإفصاح الانتقائي (حيث يُنشر جزء من المعلومات بينما تُخفى أو تُؤخَّر تفاصيل رئيسية).
مع استخدام النظام، تبيّن أن البلوك تشين لا يوفر كفاءة تقنية فحسب، بل يعزز مصداقية ووضوح البيانات الحكومية. في الأنظمة التقليدية، غالباً ما يتم التحكم في البيانات والإفصاح عنها من قبل الجهات التي تُديرها، مما يسمح لها بتشكيل السرد العام عبر اختيار ما يُعرض للناس. وعلى الرغم من أن نموذجنا لا يحل جميع مشاكل الشفافية، إلا أنه يُمثل خطوة جوهرية نحو أنظمة أكثر انفتاحاً ومساءلة.
في جوهرها، البلوك تشين هي تكنولوجيا الثقة. فعند إدخال أي معلومة، سواء كانت عقداً، أو فاتورة، أو دفعة، تبقى محفوظة بشكل دائم. ومن خلال Hyperledger Fabric، يُضيف البلوك تشين الحكومي طبقة أمان إضافية عبر استخدام أدوات التشفير لتوثيق الهوية، مما يضمن وصول الأشخاص المصرح لهم فقط إلى البيانات الحساسة، دون المساس بالشفافية أو الخصوصية.
هذه الدرجة من سلامة البيانات تكاد تكون غائبة في الأنظمة القديمة، حيث تتيح التقنيات المتقادمة إمكانية حجب أو تصفية المعلومات العامة. من خلال البلوك تشين الحكومي، يمكن للحكومات القضاء على هذه الثغرات وإنشاء نظام مشترك وشفاف يمكن لجميع الأطراف الوصول إليه. وبهذا، يساعد البلوك تشين الحكومي في توزيع المسؤولية والمساءلة بشكل لا مركزي – لا عبر إلغاء الرقابة، بل من خلال جعل الشفافية تلقائية ولا يمكن التراجع عنها. هذا يغير قواعد اللعبة.
ورغم أن تركيز النموذج الحالي ينصب على المشتريات الحكومية، فإن مبادئه قابلة للتطبيق، ويُفترض تطبيقها، على مجالات أخرى مثل الخدمات العامة، والرعاية الصحية، وتطبيق القانون، والعقارات.
بالطبع، دمج هذا النموذج في البيروقراطيات الحالية ليس بالأمر السهل. ولنجاح البلوك تشين على نطاق واسع، يجب على الحكومات معالجة تحديات التوافقية، وقابلية التوسع، وتجربة المستخدم. يجب أن يكون النظام بديهياً ومتاحاً، لا مجرد جداول بيانات تقنية، بل منصات يمكن للمواطنين فهمها والتفاعل معها. ويجب دعمه بالتدريب الوظيفي وحملات التوعية العامة. والأهم من ذلك، أن يُكمل الأنظمة الحالية بدلاً من تعقيدها. ولحسن الحظ، فإن دولة الإمارات تُعد واحدة من الدول القليلة المؤهلة للقيام بهذه القفزة.
استراتيجية الإمارات للبلوك تشين 2021، واستراتيجية دبي للبلوك تشين، واستراتيجية الحكومة الرقمية الإماراتية 2025، جميعها تؤكد طموح الدولة في أن تصبح رائدة عالمياً في الحوكمة الرقمية الشفافة. وقد رأينا بالفعل تطبيقات عملية، مثل مشروع داماك لتسجيل العقارات عبر البلوك تشين، وتبادل البيانات الآمن الذي تنفّذه شرطة دبي من خلال شراكتها مع منصة Cardano، وهي منصة للهوية والبيانات اللامركزية أُنشئت من قبل أحد مؤسسي إيثيريوم.
تشير هذه الأمثلة إلى أن البيئة مهيّأة لاعتماد نموذج مثل البلوك تشين الحكومي.
بالطبع فالبلوك تشين الحكومي ليس حلاً سحرياً، حيث إنه لا توجد تقنية كذلك. لكنه نموذج موثوق، ومُختبَر، وقابل للتوسع، وله القدرة على إحداث تحول إيجابي في كيفية إدارة الحكومات لبيانات الإنفاق العام، ومشاركتها، وحمايتها.
في الولايات المتحدة، غالباً ما تكمن المشكلة في الأنظمة المجزأة والجمود المؤسسي. أما في الإمارات، فالتحدي مختلف، وكذلك الفرصة. بفضل استراتيجياتنا الوطنية الواضحة، وثقافة الأداء، وتوقعات المواطنين العالية من القطاع العام، نحن في موقع ممتاز للتحرك بسرعة حيث يتردد الآخرون.
إذا كنا جادين بشأن الشفافية والثقة والتحول الرقمي، فإن البلوك تشين ليست مجرد أداة، بل إنها اختبار لمدى استعداد الحكومات لدمج الشفافية والمساءلة بشكل جذري في أنظمتها. ومع نماذج مثل البلوك تشين الحكومي، لا تملك الإمارات القدرة على اجتياز هذا الاختبار فحسب، بل تقف في طليعة من يمكنه قيادته.