تقاطع الذكاء الاصطناعي والبصيرة البشرية: إعادة تعريف السفر في المملكة العربية السعودية

مقال ضيف بقلم: قيس عموري، الرئيس التنفيذي الرقمي والتقني في شركة المسافر
في عصر يعيد فيه الذكاء الاصطناعي تشكيل الصناعات حول العالم، يبرز السفر كأحد أكثر المجالات ارتباطاً بالثقافة والطابع الشخصي ليخضع لهذا التحول. وبالنسبة لدولة مثل المملكة العربية السعودية، بما تمتلكه من إرث عميق، ومناظر طبيعية متنوعة، وقطاع سياحي سريع النمو، فإن تقاطع الذكاء الاصطناعي مع البصيرة البشرية يمثل فرصة غير مسبوقة لإعادة تعريف تجربة السفر، سواء للمواطنين السعوديين الذين يعيدون اكتشاف وطنهم أو للزوار الدوليين الذين يستكشفون المملكة لأول مرة.
تجسّد التزامات المملكة ببناء اقتصاد رقمي قوي، مدعوم باستثمارات في الذكاء الاصطناعي، تأثيراً واضحاً في مختلف القطاعات. وفي السياحة، لا يقتصر هذا التأثير على الكفاءة أو الراحة، بل يتعلق بصناعة رحلات شخصية، أصيلة ثقافياً، ومتصلة بسلاسة. السؤال لا يدور حول ما إذا كان بإمكان الذكاء الاصطناعي تحسين السفر، فهو قادر بلا شك، بل يركز السؤال على كيفية ضمان أن تُكمّل التكنولوجيا جوهر التجربة البشرية بدلاً من أن تحلّ محلها.
دمج الخبرة المحلية مع الذكاء الاصطناعي
في جوهر أي تجربة سفر ذات معنى يكمن فهم المكان: ثقافته، وتاريخه، وتفاصيله التي تجعله فريداً. وهنا يتميز الذكاء الاصطناعي بقدرته على تحليل كميات ضخمة من البيانات للكشف عن أنماط وسلوكيات المسافرين، لكن الخبرة المحلية هي التي تضمن أن تكون هذه التوصيات ذات مغزى عميق. من خلال تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على بيانات مشتقة من أنماط السفر المحلية، ورؤى ثقافية، وتعليقات من ملايين التفاعلات، يمكننا تجاوز التوصيات العامة.
على سبيل المثال، بدلاً من اقتراح موقع سياحي شهير، يمكن للذكاء الاصطناعي توجيه المسافرين إلى كنوز مخفية مثل قرية ساحلية هادئة، أو سوق تقليدي عمره قرون، أو جولة محلية يقودها مرشد تاريخي. فهذه ليست مجرد وجهات؛ بل قصص تنتظر أن تُكتشف، تم تنسيقها من خلال خوارزميات متقدمة وخبرة حية من فرق محلية.
يتيح هذا المزيج من التقنية والبصيرة البشرية أيضاً التكيّف مع تفضيلات المسافرين المتغيّرة. سواءً كان الطلب المتزايد على السياحة البيئية، أو التجارب الثقافية الغامرة، أو المغامرات خارج المسار المعتاد، يساعد الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالاتجاهات، فيما تضمن الخبرة المحلية أن تظل هذه العروض أصيلة وذات صلة.
تخصيص التجربة على نطاق واسع
تتمثل إحدى أعظم قدرات الذكاء الاصطناعي في تخصيص التجربة على نطاق واسع. إذ لم يعد السفر تجربة موحدة للجميع. فكل رحلة تتشكل بناءً على تفضيلات فردية، وسياقات، ولحظات زمنية. ويسمح الذكاء الاصطناعي بتحليل سلوك المستخدم، وأنماط الحجز، والإشارات اللحظية لتقديم توصيات تبدو فطرية وفي وقتها المناسب.
تخيل مسافراً يبحث عن عطلة عائلية خلال الإجازات المدرسية. لا يقترح الذكاء الاصطناعي خيارات عامة فقط؛ بل يأخذ في الحسبان الحجوزات السابقة، والأنشطة المفضلة، وحتى الفعاليات الموسمية ليقدم اختيارات مصممة خصيصاً. أو يمكنك تخيل مسافر بمفرده يبحث عن ملاذ ثقافي، وهنا يمكن للذكاء الاصطناعي إبراز خيارات مثل الإقامة في قرية تراثية أو حضور مهرجانات فنية.
هذا المستوى من التخصيص يُحوّل التخطيط للسفر من عملية تجارية إلى تجربة ديناميكية وجذابة، ويُزيل الحواجز، ويُعرّف المسافرين على تجارب لم يكونوا ليأخذوها بعين الاعتبار، ويُعزّز شعورهم بأنهم مفهومون حقاً.
دور التعاون
لا يمكن لأي جهة بمفردها بناء نظام سفر متكامل. الشراكات والتعاون أمران حاسمان، لا سيما عند استخدام الذكاء الاصطناعي، لتقديم تجارب مخصصة. من مزودي التكنولوجيا إلى هيئات السياحة، ومن شركات الطيران إلى الأعمال المحلية، يساهم كل طرف ببيانات ورؤى تثري التجربة العامة.
كما يضمن التعاون أن يتماشى التخصيص مع التوطين الثقافي. من خلال العمل عن كثب مع الكيانات والجهات السياحية المحلية، نُدرج الأصالة الثقافية في كل توصية. الأمر لا يتعلق فقط بعرض ما هو متاح؛ بل بتقديمه بطريقة تشعر بأنها متجذرة في هوية المكان.
البصيرة البشرية في عالم مؤتمت
بينما نتبنى الأتمتة، من الضروري أن نتذكّر أن السفر بطبيعته إنساني. يتعلق بالاتصال، والعاطفة، والاكتشاف. حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتولى المهام المتكررة ويُبسّط العمليات، لكنه لا يستطيع تكرار التعاطف، والحدس، والفهم الثقافي الذي يقدمه الإنسان.
لذلك تبقى البصيرة البشرية محوراً في تصميم وتسليم الحلول المعتمدة على الذكاء الاصطناعي. وتلعب الفرق المحلية دوراً أساسياً في تنسيق المحتوى والتحقق منه، لضمان أن تعكس كل توصية الفروق الثقافية والملاءمة. كما تساعد حلقات التغذية الراجعة بين التكنولوجيا والإشراف البشري في تحسين الخوارزميات وضبطها بما يتماشى مع قيم وتوقعات المسافرين.
الهدف في نهاية المطاف ليس استبدال العنصر البشري، بل تعزيزه. ومع تحرير الأتمتة للموارد، يسمح للفرق التركيز على تقديم خدمات شخصية وذات مغزى. فالأمر يتعلق بتضخيم اللمسة الإنسانية، وليس تقليصها.
نظرة إلى المستقبل: السفر السلس
يكمن مستقبل السفر في خلق تجارب سلسة وبديهية تمنح إحساس أنها شخصية وخالية من الجهد. ومن المجالات الواعدة الذكاء الاصطناعي الحواري. تخيل مسافراً يقول ببساطة: «أريد عطلة نهاية أسبوع مع عائلتي الشهر المقبل»، فيتلقى خيارات مصممة خصيصاً تتضمن الرحلات، والإقامة، والأنشطة، وكل ذلك ضمن واجهة محادثة طبيعية.
رغم أن الذكاء الاصطناعي الحواري لا يزال في مراحله الأولى، فإنه يملك القدرة على تحويل كيفية تخطيط الأشخاص للرحلات وحجزها، مما يُقلّل من الحواجز ويضيف لمسة إنسانية إلى المنصات الرقمية. ومع المحتوى المحلي الفائق الدقة والتخصيص اللحظي، يمكن لهذه التقنية إعادة تعريف مفهوم السفر السلس.
السفر كتجربة شخصية
في جوهره، لا يتعلق السفر بالوصول إلى وجهة، بل بالرحلة، وهي رحلة تبدأ قبل الحجز بكثير وتستمر حتى بعد انتهاء الرحلة. لقد زوّدنا الذكاء الاصطناعي بالأدوات لجعل هذه الرحلات أكثر شخصية وارتباطاً وذكراً. لكن اللمسة البشرية من بصيرة ثقافية واتصال عاطفي، هي ما يضمن أن تظل هذه التجارب راسخة في الذاكرة.
في ظل هذا التقاطع المثير بين التكنولوجيا والتقاليد، يبقى مبدأنا التوجيهي واضحاً: استخدام الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن البصيرة البشرية، بل وسيلة لتضخيمها. معاً، يُشكّلان شراكة قوية تُعيد تعريف ما يعنيه الاستكشاف والتواصل والاكتشاف في عالم رقمي بشكل متزايد لكنه لا يزال إنسانياً بعمق.