كيف يمكن أن تكون مراكز البيانات جزءاً من الاقتصاد الدائري

في ظل التحديات البيئية المتزايدة والضغوط المتصاعدة من المشرعين والرأي العام على حد سواء لتبني نُهُج عمل أكثر استدامة، باتت الشركات تسعى بمختلف الطرق لإعادة النظر في ممارساتها التشغيلية. وفيما أن تكنولوجيا المعلومات لا تعد المصدر الأبرز للانبعاثات الكربونية، إلا أنها تتيح فرصاً مميزة للشركات لتقليل أثرها البيئي وتحقيق مستويات أعلى من الاستدامة.

وتبرز تلك الفرص بوضوح في مراكز البيانات. حيث باتت قدرات الحوسبة جزءاً أساسياً من عمليات أي شركة اليوم، وتتنامى باستمرار مع الحاجة لجمع المزيد من البيانات، ورقمنة المزيد من الأنظمة، وتبني المزيد من التقنيات، وبالأخص الذكاء الاصطناعي. لذا وبالنسبة للشركات التي تريد تبني الاقتصاد الدائري حقاً، تشكل مراكز البيانات نقطة انطلاق مهمة، وقد أظهرت تجارب سابقة الفوائد الممكن تحقيقها من ذلك.

في هذا المقال، نتناول مفهوم الاقتصاد الدائري عموماً، وما أهميته، وكيف يمكن أن تلعب مراكز البيانات دوراً أساسياً في جهود تحقيقه، من خلال تسليط الضوء على تجربة ناجحة ومهمة نتجت عن تعاون AMD -عملاقة صناعة الشرائح- مع BNP Paribas -المجموعة المصرفية الأوروبية الكبرى- تؤكد إمكانية الجمع بين الابتكار والاستدامة.

ما هو الاقتصاد الدائري ولماذا يُعد ضرورة للمرحلة المقبلة؟

حتى الأجهزة الإلكترونية القديمة التي قد تبدو خردة يمكن استغلالها لتقليل النفايات التقنية
حتى الأجهزة الإلكترونية القديمة التي قد تبدو خردة يمكن استغلالها لتقليل النفايات التقنية

الاقتصاد الدائري هو نموذج اقتصادي بديل للنظام الاقتصادي الخطي التقليدي الذي يقوم على تسلسل أحادي الاتجاه يبدأ من استخراج المواد الأولية، ومن ثم تصنيع السلع، ويتبع ذلك الاستهلاك من قبل المستخدمين النهائيين، وأخيراً التخلص من السلع على أنها نفايات. أما الاقتصاد الدائري فيركز على كيفية استخدام الموارد منذ البداية، فيهدف إلى تقليل النفايات من خلال استراتيجيات إعادة الاستخدام، وإعادة التدوير، والترميم، وإطالة العمر التشغيلي للمنتجات.

يمكن النظر إلى الاقتصاد الدائري على أنه هيكل أوسع وأكثر شمولية من نموذج إعادة التدوير الشائع. حيث يركز هذا النموذج على تقليل الهدر في كل مرحلة من مراحل الإنتاج والاستهلاك، ويتضمن تبني عمليات مستدامة أثناء الاستخراج، وتحسين طرق التصنيع لرفع كفاءتها، وتقليل الاستهلاك سواء عبر تحسين المنتجات نفسها وإطالة عمرها، أو عبر توفير طرق تسمح بإعادة استخدامها ككل أو كأجزاء بدلاً من التخلص منها تماماً.

وفي ظل أزمة المناخ، وتنامي الطلب على الطاقة، وكون إنتاج العديد من المواد الأولية أبطأ من الطلب المتنامي عليها، يرى الخبراء أن تبني نماذج الاقتصاد الدائري لم يعد خياراً في عالم اليوم، بل أصبح ضرورة. حيث لا يقتصر أثر الاقتصاد الدائري على تخفيض الأثر البيئي، بل يمتد إلى فتح فرص تجارية جديدة قائمة على الابتكار في التصميم وسلاسل التوريد. وأثبتت العديد من التجارب أن تبني الاقتصاد الدائري قليل التكلفة، وفي الكثير من الحالات تفوق فوائده المالية كلفته، وبالأخص في حال احتساب الفوائد التي يحققها من حيث السمعة، والتسهيلات التي يمكن أن تحصل عليها الشركات من تبنيه في بعض البلدان.

مراكز البيانات: بصمة بيئية متنامية للبنية التحتية الرقمية

تمتلك مراكز البيانات الأحدث كفاءة أعلى من حيث استهلاك الطاقة، مما يجعلها مجدية اقتصادياً وبيئياً بنفس الوقت
تمتلك مراكز البيانات الأحدث كفاءة أعلى من حيث استهلاك الطاقة، مما يجعلها مجدية اقتصادياً وبيئياً بنفس الوقت
مواضيع مشابهة

تلعب مراكز البيانات دوراً محورياً في اقتصاد المعلومات، إذ تشغّل التطبيقات السحابية، وتخزّن البيانات الحساسة، وتدير الخدمات الرقمية التي تعتمد عليها الشركات والمستخدمون يومياً. إلا أن هذا الدور المهم ترافقه تكلفة بيئية عالية. بحسب الدراسات، فإن مراكز البيانات مسؤولة عن ما يصل إلى 2% من استهلاك الطاقة الكهربائية العالمي، وتزداد هذه النسبة مع تنامي تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي. وقد بات هذا النمو كبيراً كفاية بحيث باتت شبكات الكهرباء المحلية والوطنية تعاني للتعامل مع الأعباء الإضافية، وهو ما دفع عمالقة التقنية للاستثمار في محطات توليد الطاقة، بما يشمل المفاعلات النووية ومحطات الطاقة الكهرومائية.

وبالإضافة لفاتورة الطاقة الكبيرة، وما يترتب على ذلك من استهلاك للمواد وانبعاثات كربونية، تمتلك مراكز البيانات العديد من النواحي الأخرى التي تحتاج تحسيناً لاستدامتها. فتحتاج مراكز البيانات التبريد بشكل مستمر، وتستهلك لذلك كماً هائلاً من المياه العذبة (التي كان من الممكن استغلالها كمياه للشرب أو الزراعة). وأخيراً، عادة ما تكون دورة حياة الخوادم قصيرة نسبياً، ويتم التخلص منها كل بضع سنوات مما يمكن أن تضيع مكونات لا تزال قابلة للاستخدام، وهدر مواد ومعادن ثمينة.

بالنظر لما سبق، يعد دمج مبادئ الاقتصاد الدائري في إدارة مراكز البيانات، مثل إعادة استخدام البنية التحتية، وإصلاح الأجهزة بدلاً من استبدالها، واستخدام مصادر طاقة متجددة، توجهاً حيوياً لضمان استدامة هذا القطاع. والأهم أن الشركات الرائدة باتت ترى أن مراكز البيانات المستدامة لا تحقّق الأهداف البيئية فقط، بل تُحسّن أيضاً من الكفاءة التشغيلية وتُقلل من النفقات على المدى الطويل.

دراسة حالة: كيف استفادت BNP Paribas من تقنيات AMD لتبني الاقتصاد الدائري

في خطوة تُعدّ واحدة من الأمثلة الأنجح في المجال، أطلقت مجموعة BNP Paribas المصرفية مبادرة تهدف إلى دمج مبادئ الاقتصاد الدائري في تشغيل مراكز بياناتها، وذلك بالتعاون مع شركة AMD، الرائدة في مجال الشرائح الإلكترونية والمعالجات. حيث هدفت المبادرة لتبني الاقتصاد الدائري بشكل أكثر فاعلية عبر إعادة استخدام خوادم تم تجديدها وترقيتها عبر إضافة معالجات AMD الأحدث وذات الكفاءة الأفضل بدلاً من استبدالها بالكامل.

لعبت AMD دوراً محورياً في تمكين مبادرة BNP Paribas، ليس فقط بتوفير المعالجات، بل بتقديم رؤية متكاملة حول كيفية تحقيق أداء عالٍ واستدامة في الوقت ذاته. فقد تم تزويد الخوادم التي أُعيد استخدامها بمعالجات AMD EPYC، المعروفة بكفاءتها العالية في استهلاك الطاقة وأدائها القوي في البيئات المؤسسية. كما تمكّنت معالجات AMD EPYC من تقليل الحمل الحراري في مراكز البيانات، ما قلل الحاجة إلى أنظمة تبريد كثيفة، وساهم في خفض استهلاك الطاقة الإجمالي.

كذلك، ساهم تبني AMD لبنية الشرائح المصغرة (Chiplets) بشكل كبير في تحقيق مستويات أداء أعلى بالتزامن مع تقليل استهلاك الطاقة وتقليل البصمة الحرارية الخاصة بالخوادم. وبالتالي حققت الخوادم الجديدة النتائج المرجوة من حيث الارتقاء بالأداء، وذلك مع الحفاظ على مبادئ الاقتصاد الدائري من حيث إعادة استخدام الخوادم وتقليل استهلاكها للموارد. وبالإضافةً إلى العتاد، وفّرت AMD بيئة ROCm البرمجية المفتوحة التي تتيح تشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي بكفاءة على معالجاتها، مما يعزّز التكامل بين الأداء التقني والاستدامة البيئية.

بالمجمل، كانت النتائج مشجعة: توفير مالي كبير بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بشراء خوادم جديدة، وتقليل البصمة الكربونية بمعدل ملحوظ، وتقليص نفايات الأجهزة الإلكترونية. كما ساعدت المبادرة في تقصير وقت التوقف عن العمل وتمكين استمرارية الخدمات.

يُظهر نموذج BNP Paribas بالتعاون مع AMD أن الابتكار لا يقتصر على التصميم الهندسي أو أداء الأجهزة، بل يشمل إعادة التفكير في دورة حياة التكنولوجيا نفسها. فحينما يتم دمج معايير الاستدامة والاقتصاد الدائري في البنية التحتية الرقمية، يصبح بالإمكان تحقيق معادلة ثلاثية تجمع بين الأداء، والكفاءة، والمسؤولية البيئية.

ومع تنامي الاعتماد على البيانات والذكاء الاصطناعي، ستزداد أهمية دور مراكز البيانات في تشكيل مستقبل اقتصادي أكثر اتزاناً. وحين تقود شركات مثل AMD هذا التحول من خلال منتجات وبيئات تشغيل داعمة للاستدامة، تتضح ملامح مستقبل رقمي أكثر وعياً، وأكثر اتصالاً بقيم الكوكب الذي نعيش فيه.

شارك المحتوى |
close icon