كيف استطاعت الكويت تشتري مرسيدس للسيارات؟

تُعرف الكويت بأنها من أوائل الدول الخليجية التي استثمرت جزءًا كبيرًا من إيرادات النفط في الأصول الخارجية، متبعةً سياسة حكيمة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل الوطني. ومن أبرز الأمثلة على هذه الرؤية المستقبلية، قصة استثمار الكويت في شركة “دايملر بنز” الألمانية، الشركة الأم للعلامة التجارية الشهيرة “مرسيدس بنز”. على الرغم من أن الكثيرين يعتقدون أن الكويت اشترت مرسيدس بالكامل، إلا أن القصة في تفاصيلها تحمل نموذجًا فريدًا للاستثمار الذكي طويل الأجل، وليس عملية استحواذ تقليدية.
في هذا المقال، نأخذك في رحلة تاريخية واقتصادية لفهم كيف أصبحت الكويت ذات نفوذ وتأثير في واحدة من أعرق شركات صناعة السيارات في العالم.
البدايات: الرؤية الاقتصادية للكويت
منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت دولة الكويت، مدفوعة بالثروة النفطية المتزايدة، بوضع خطط استراتيجية لحماية مستقبل أجيالها من الاعتماد الكلي على النفط. تم تأسيس “الهيئة العامة للاستثمار” (KIA) عام 1953، لتكون الجهة الرسمية المسؤولة عن إدارة استثمارات الدولة داخليًا وخارجيًا، وتُعد بذلك أقدم صندوق سيادي في العالم.
كان هدف الهيئة هو استثمار الفوائض المالية النفطية في أصول عالمية متنوعة ذات جدوى اقتصادية عالية على المدى الطويل. ولم تكن الشركات الأوروبية الكبرى خارج هذه الرؤية.
أزمة مرسيدس وظهور الفرصة
في بداية الثمانينات، واجهت شركة دايملر بنز (مرسيدس حاليًا) تحديات كبيرة نتيجة الركود الاقتصادي في أوروبا والولايات المتحدة. انخفضت أرباح الشركة بشكل ملحوظ، وبدأت تبحث عن شركاء مستثمرين قادرين على دعمها دون التدخل في قراراتها الفنية والإدارية.
اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن أزمة سوق المناخ وماذا حدث بعدها؟
وفي هذه المرحلة الدقيقة، تقدّمت الكويت عبر الهيئة العامة للاستثمار بعرض استثماري استراتيجي لشراء حصة من أسهم شركة دايملر بنز. لم يكن الهدف السيطرة على الشركة أو تغيير مسارها، بل المشاركة في ملكية إحدى أعظم شركات صناعة السيارات، مع دعم استقرارها المالي وضمان عوائد طويلة الأمد.
حجم الاستثمار وتفاصيل الصفقة
بحلول عام 1974، استثمرت الكويت ما يقارب 1.8 مليار دولار أمريكي في شركة دايملر بنز، مقابل حصة تقارب 14.5% من أسهم الشركة، ما جعلها أكبر مساهم فردي في الشركة في ذلك الوقت. وقد كانت هذه الخطوة سابقة غير معتادة في ذلك الوقت بالنسبة لدولة خليجية، حيث لم تكن الدول العربية تُعرف آنذاك بامتلاك حصص استراتيجية في شركات صناعية غربية.
الصفقة لم تكن مجرد عملية شراء أسهم، بل عكست نضجًا اقتصاديًا وسياسيًا لدى صانعي القرار الكويتيين، الذين أدركوا أهمية تنويع الاستثمارات والبحث عن قطاعات مستقرة ومربحة عالميًا مثل صناعة السيارات الفاخرة.
علاقة الكويت بشركة مرسيدس بعد الاستثمار
بعد شراء الحصة الكبيرة في دايملر بنز، حرصت الكويت على بناء علاقة إيجابية ومتوازنة مع إدارة الشركة. لم تتدخل الكويت في القرارات الإدارية أو الإنتاجية، بل مارست دور “المستثمر الاستراتيجي الصامت” الذي يدعم الشركة ماليًا ويمنحها الثقة في مواجهة تقلبات السوق.
ورغم أن الكويت لم تطالب بمقاعد تنفيذية في مجلس الإدارة. إلا أن وجودها كمساهم رئيسي منحها تأثيرًا سياسيًا واقتصاديًا هامًا. حيث أصبحت كل خطوة تتخذها الشركة محل اهتمام من قبل المستثمرين والمؤسسات المالية. خاصة أن دولًا خليجية أخرى بدأت تتبع خطى الكويت في الاستثمار الخارجي.
العوائد الاقتصادية والسياسية
شكل استثمار الكويت في مرسيدس نموذجًا ناجحًا للاستثمار السيادي على عدة مستويات:
1. عوائد مالية ضخمة:
مع تعافي الشركة وارتفاع قيمة أسهمها في التسعينات، حققت الكويت مكاسب مالية كبيرة. سواء من توزيعات الأرباح أو من ارتفاع قيمة الأصول نفسها.
2. نفوذ دولي ناعم:
ساهم الاستثمار في تعزيز صورة الكويت كدولة اقتصادية مؤثرة. وفتح أمامها أبوابًا للعلاقات التجارية والدبلوماسية مع دول الاتحاد الأوروبي، خاصة ألمانيا.
3. نموذج يُحتذى به:
اتخذت العديد من الدول الخليجية هذا الاستثمار كقدوة، وبدأت بتأسيس صناديق سيادية مشابهة وتوجيه رؤوس الأموال نحو الأصول العالمية ذات القيمة.
خروج تدريجي ومدروس
في نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة. بدأت الكويت في تقليص حصتها تدريجيًا في دايملر بنز بعد أن حققت أهدافها من هذا الاستثمار. لم يكن الانسحاب ناتجًا عن خسائر أو توترات. بل كان نتيجة لسياسة تدوير الأصول وتنويع المحفظة الاستثمارية، التي تتبعها الهيئة العامة للاستثمار.
اقرأ أيضا: طريقة الاستعلام عن البطاقة في موقع البوابة الإلكترونية الكويتية
اليوم، لم تعد الكويت تملك الحصة الكبرى في دايملر بنز. لكن الاستثمار التاريخي لا يزال يُذكر كواحد من أنجح استثمارات الدول الخليجية على الإطلاق.
دروس مستفادة من تجربة الكويت مع مرسيدس
- أهمية الرؤية المستقبلية: امتلاك خطة واضحة لاستثمار الثروات في أصول مستدامة يحقق أمنًا اقتصاديًا للأجيال القادمة.
- عدم التدخل في الإدارة: ترك المجال للخبراء الفنيين لإدارة أعمالهم يعزز الثقة المتبادلة بين المستثمر والشركة.
- الاستثمار في الأزمات يخلق فرصًا ذهبية: لم تكن مرسيدس في أوج ازدهارها وقت الاستثمار. لكن الكويت رأت الفرصة في الوقت المناسب.
- العلاقات الاقتصادية تبني نفوذًا سياسيًا: القوة الاقتصادية من خلال الاستثمارات الخارجية. تفتح مجالات جديدة للعلاقات الدولية.
- الانسحاب في الوقت المناسب: التخارج المدروس من الأصول بعد تحقيق العوائد هو من علامات النجاح الاستثماري.
أخيرا، قصة الكويت مع مرسيدس ليست مجرد استثمار في شركة سيارات. بل هي قصة طموح اقتصادي خليجي سابق لزمانه. ومثال حي على أن حسن الإدارة، والرؤية الاستراتيجية. والصبر الاستثماري يمكن أن تضع دولة صغيرة جغرافيًا في قلب صناعة عالمية عريقة. واليوم، لا تزال هذه القصة تُروى كمثال ملهم في كتب الاقتصاد. ودليل على أن الاستثمارات الذكية تتجاوز العوائد المالية، لتؤسس لمكانة دولية مرموقة.