بناء نموذج لغوي وطني كبير: الفرص والتحديات في دولة الإمارات وخارجها

مقال ضيف بقلم خافيير ألفاريز، رئيس ممارسات التكنولوجيا – منطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا في إف تي آي كونسلتينج؛ وفريد ليبلر، المدير في قسم ممارسات التكنولوجيا في إف تي آي كونسلتينج
تخيّل أن تتفاعل مع مساعد افتراضي يفهم ما تريده تماماً، سواءً كنت تتحدث العربية بأسلوب فصيح أو لغة إنجليزية بسيطة أو مزيجاً بين الاثنين. وفي غضون ثوان، يأتيك باستجابة دقيقة تراعي الجوانب الثقافية وتُميّز الفروق الدقيقة والسياق الإقليمي. هذا ما تَعد به برامج عملاء الذكاء الاصطناعي، فهي مساعدات رقمية ذكية تعتمد على أحدث النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs).
هذه النماذج عبارة عن أنظمة ذكاء اصطناعي كبيرة التأثير قادرة على فهم اللغات البشرية وتوليدها، وهي بمثابة العقل المفكّر لعملاء الذكاء الاصطناعي، إذ تتيح معالجة طلبات معقدة والتأقلم مع لهجات مختلفة وإجراء محادثات هادفة ومفيدة. وبدءاً من المساعدة في خدمة العملاء، ومروراً بالترجمة في الوقت الفعلي، ووصولاً إلى تقديم النصائح القانونية والمالية، يُعيد هؤلاء العملاء تعريف التفاعل بين الإنسان والكمبيوتر.
وفي حين تتصدر نماذج من القطاع الخاص مشهد الذكاء الاصطناعي على الساحة العالمية، مثل GPT-4.5 من OpenAI، وGemini 2.0 من Google، وDeepSeek R1، وتطوُّر عملاء ذكاء اصطناعي أكثر تقدماً، مثل Manus AI، فإننا نشهد بروز توجه جديد يتمثل في نماذج لغوية كبيرة على المستوى الوطني. فالدول تعمل على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي خاصة بها ومخصصة بحسب واقعها اللغوي والثقافي والاقتصادي. وتضمن هذه النماذج المحلية سيادة أفضل على البيانات، وتوفر أنظمة ذكاء اصطناعي تفهم اللهجات المحلية والتقاليد والقيم المجتمعية بعمق، مما يساعد الدول على سدّ الفجوة التي أحدثتها النماذج العالمية وتشكيل ملامح مستقبل الذكاء الاصطناعي بما يتناسب مع شروطها الخاصة.
وبالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة والشرق الأوسط عموماً، فإن إمكانات النماذج اللغوية الكبيرة تمتد إلى أبعد من الابتكار التقني بكثير، ذلك أنها تمثّل فرصة استراتيجية لتحريك عجلة النمو الاقتصادي، وتعزيز السيادة الرقمية، وتوسيع فرص الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، وترسيخ الشمولية. ومع أن تطوير نماذج لغوية كبيرة متقدمة ينطوي على تعقيدات تقنية، إلا أنه يتطلب أيضاً قرارات اقتصادية مهمة، وتطوير قوى العمل، وتخطيطاً استراتيجياً طويل الأمد.
وتكتسب دولة الإمارات ميزة تنافسية بفضل إرادتها السياسية القوية، وقدرتها الاستثمارية، ومنظومة الذكاء الاصطناعي التي تنمو بوتيرة متسارعة فيها. فبرؤية واضحة للريادة في هذا المجال، لا تكتفي الدولة باعتماد النماذج العالمية، بل تسهم في رسم ملامح مستقبل النماذج اللغوية الكبيرة، من خلال تطوير نماذج مثل «جيس» — وهو نموذج يضم 13 مليار مُعامِل وتم تدريبه على مجموعة بيانات تضم 395 مليار وحدة لغوية باللغتين العربية والإنجليزية. ومن خلال بناء نماذج تفهم تنوّع اللغة، وخصوصية الثقافة، واحتياجات الاقتصاد في المنطقة، تتيح الإمارات حلول ذكاء اصطناعي ملائمة للسياق المحلي وبقدرات منافسة على المستوى العالمي، واضعة معياراً جديداً لتقنيات الذكاء الاصطناعي في العالم العربي وخارجه.
أهمية تطوير نموذج لغوي كبير على المستوى الوطني
لا خلاف على ضرورة النماذج اللغوية الكبيرة اليوم، خصوصاً في ضوء تطبيقاتها المتنوعة، والتي تضم خدمة العملاء والتعليم والرعاية الصحية والبرمجة وحتى الحوكمة. وعلى الصعيد العالمي، تعمل أكثر من 30 دولة على تطوير نماذجها الخاصة، مع تضمين خصائصها اللغوية والثقافية الفريدة في أنظمتها الذكية. ولا يقتصر هذا التوجه على تعزيز الشعور الوطني، بل يرتبط أيضاً ببناء قدرات مستقلة، إذ تتيح النماذج اللغوية الوطنية تقليل الاعتماد على النماذج الأجنبية، من خلال ضمان سيادة البيانات، وتعزيز أمنها، والتحكم الكامل في خصائص النموذج ومخرجاته. وقد بدأت الإمارات خطوات ملموسة في هذا الاتجاه من خلال تطوير نموذج «جيس»، أحد أكثر النماذج العربية تقدماً، مما يعكس التزام الدولة بقيادة مستقبل الذكاء الاصطناعي، ويُمهّد الطريق لمزيد من الابتكار في هذا المجال.
فاللغة العربية، بما تحمله من ثراء وتعقيد وتنوّع لهجاتها بحسب المناطق والسياقات الاجتماعية، غالباً ما تمثل تحدياً للنماذج العالمية. وهنا تبرز أهمية تطوير نماذج محلية يمكنها فهم هذه الفوارق الدقيقة والتفاعل معها بذكاء، ليس فقط لخدمة المجتمع الإماراتي، بل لتمتد فائدتها إلى المنطقة العربية بالكامل.
ويُشكّل الازدواج اللغوي في المنطقة – ولا سيما التفاعل بين العربية والإنجليزية – حافزاً إضافياً لتطوير نموذج لغوي وطني. ففي حالة مسافر أعمال في مطار دبي الدولي، أو طالب يطّلع على مصادر أكاديمية على سبيل المثال، يشكل وجود نموذج يفهم السياقين الثقافي واللغوي تلقائياً نقلة نوعية في تجربة المستخدم. ومن خلال تطوير هذه القدرات محلياً، تستطيع الإمارات تقليص اعتمادها على أنظمة الذكاء الاصطناعي الأجنبية، مع ضمان بقاء البيانات داخل حدودها الوطنية.
ولا يقتصر أثر النموذج اللغوي الوطني على حالات الاستخدام المباشرة، بل يمتد ليعزز تنافسية دولة الإمارات في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، ويضع مؤسساتها في موقع محوري للمساهمة في رسم مستقبل هذه التقنية، بما يدعم الابتكار ويحفّز النمو الاقتصادي في القطاعات المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
البُعد الاقتصادي
يتجاوز بناء نموذج لغوي وطني كونه إنجازاً تقنياً ليشكّل عامل تحفيز اقتصادي فعّال. فإتاحة نموذج لغوي كبير محلياً يمكّن الجهات الحكومية والجامعات والشركات الخاصة من دمج تقنيات الفهم اللغوي المتقدّم في أنظمتها، مما يقلّل من الوقت والجهد والتكاليف المرتبطة بالاعتماد على أدوات أجنبية أو تعديلها لتناسب السياق المحلي.
لكن العوائد الاقتصادية لا تتوقف عند سهولة الاستخدام، إذ يشكّل النموذج اللغوي الوطني قاعدة لانطلاق منظومة متكاملة من الابتكار، ذلك أنه يتيح للشركات الناشئة المحلية تطوير تطبيقات تعتمد عليه، بدءاً من روبوتات المحادثة وأدوات الترجمة، ووصولاً إلى حلول التحليل المتقدّم ووكلاء الذكاء الاصطناعي. ويؤدي ذلك إلى تحفيز ريادة الأعمال وتعزيز التنويع الاقتصادي، وهما ركيزتان أساسيتان في استراتيجية التنمية طويلة المدى لدولة الإمارات.
كما يساهم النموذج الوطني في توفير فرص عمل، سواء في تطوير النماذج، أو في تخصصات مرتبطة مثل اللغويات، والأخلاقيات، والسياسات العامة. ويسهم تطوير الخبرات الإقليمية في الذكاء الاصطناعي في بناء رأس مال بشري قادر على قيادة هذا القطاع من داخل المنطقة، بدلاً من الاعتماد على خبرات خارجية.
التحديات
في المقابل، يُعد تطوير نموذج لغوي كبير مهمة دقيقة تنطوي على رهانات عالية. فبناء أنظمة ذكاء اصطناعي رائدة يتطلب كميات هائلة من البيانات عالية الجودة، وقوة حوسبة ضخمة، واستثمارات مالية كبيرة.
وتُعد مسألة توافر البيانات وجودتها التحدي الأبرز، إذ يوجد فارق كبير بين اللهجات العربية، وليس فقط بين الدول مثل المغرب والعراق، بل حتى داخل الدولة الواحدة. ويُعد جمع مجموعات بيانات رقمية تمثّل هذا التنوع اللغوي تحدياً شاقّاً، لا سيما وأن جزءاً كبيراً من المحتوى العربي المتاح على الإنترنت، مثل منشورات وسائل التواصل والمدونات، قد لا يفي بمعايير الجودة المطلوبة لتدريب النماذج المتقدمة.
وتشكل الموارد تحدياً آخر. فعملية تدريب النماذج اللغوية تتطلب قدرات حوسبة هائلة ومعالجات رسومية عالية الأداء. ورغم أن الاستثمارات المتزايدة لدولة الإمارات في البنية التحتية السحابية توفر قاعدة متينة، وأن تقنيات أكثر كفاءة مثل DeepSeek تفتح المجال أمام نماذج أقل تكلفة، إلا أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي. فقيمة النموذج الوطني تتحقق فقط عند اعتماده على نطاق واسع. وفي حال غاب التفاعل الفعّال من قبل الجهات الحكومية، وقطاع الأعمال، والمؤسسات التعليمية، فإن المشروع مهدد بأن يبقى استثماراً محدود النفع. ويتوقف النجاح على مواءمة الابتكار مع الاحتياجات الفعلية لضمان جدوى النموذج وتأثيره العملي.
وأخيراً، تبقى مسألة الكفاءات من أبرز العوامل الحاسمة. فعلى الرغم من الخطوات الطموحة التي اتخذتها دولة الإمارات لتعزيز التعليم المرتبط بالذكاء الاصطناعي، إلا أن النقص العالمي في المواهب المتخصصة لا يزال موجوداً. وسيكون جذب الخبرات العالمية، بالتوازي مع تنمية القدرات المحلية، خطوة ضرورية لترسيخ ريادة الدولة في هذا المجال مستقبلاً.
بالنسبة لدولة الإمارات والجهات الفاعلة الإقليمية، ينبغي لقرار الاستثمار في نموذج لغوي وطني أن يستند إلى رؤية واضحة وغرض محدد. فهل يتم بناء نموذج من الصفر، على غرار مشروع GPT-NL في هولندا؟ أم يُضاف مستوى متقدم من المعالجة باللغة العربية إلى نموذج أساسي قائم باستخدام أسلوب RAG، الذي يُعد خياراً أقل تكلفة وأسرع من حيث التنفيذ؟
لكل خيار مزاياه وتحدياته. فبناء نموذج أساسي جديد يوفّر قدرة أعلى على التخصيص والسياق المحلي، لكنه يتطلب التزاماً مالياً طويل الأجل من حيث التطوير والتحديث والصيانة. في المقابل، يحدّ أسلوب RAG من مرونة التخصيص، لكنه يتيح الإطلاق بسرعة أكبر وتكلفة أولية أقل.
ويُضاف إلى ذلك ضرورة تحديد الأولويات: هل ينبغي التركيز في المرحلة الأولى على اعتماد النموذج في القطاع الحكومي، وتطبيقه في الخدمات الذكية مثلاً؟ أم تُمنح الأولوية لمراكز الابتكار التي تتعاون مع شركات القطاع الخاص لمعالجة التحديات التجارية؟ هذه الخيارات سترسم ملامح المسار الذي ستسلكه طموحات الإمارات في مجال الذكاء الاصطناعي.
إن السعي لبناء نموذج لغوي وطني لا ينحصر تحت بند المساعي التقنية فقط، بل يُعد استجابة استراتيجية لعالم يشهد تحولات متسارعة. ففرصة الإمارات ودول الجوار لا تكمن فقط في تطوير قدرات محلية، بل في تحفيز الابتكار الاقتصادي من خلال أدوات ذكاء اصطناعي قادرة على إحداث تأثير على المستويين الإقليمي والعالمي.
ولا شك أن التحديات كبيرة، لكن بوجود قيادة حكيمة وطموحة، وشراكات استراتيجية بين القطاعين العام والخاص، والتزام حقيقي ببناء البنية التحتية وتطوير الكفاءات، يمكن لدولة الإمارات أن تتجاوز دور المشاركة لتتبوأ مكانة الريادة في مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي.

