الثقافة المالية.. وجه مُغيب في العمل المؤسسي

مقال ضيف بقلم: أمل عثمان، استشارية مستقلة لعلاقات الاتصال المؤسسي وإدارة السمعة للشركات
تكمن إحدى أعمدة الإدارة المنسية بإغفال أهمية موائمة البيانات المالية للإدارات التابعة بالقرارات الاستراتيجية للشركة وهو ما ينشأ عن غياب فهم الفريق والإدارات العليا بأساسيات النظم المالية وأهميتها في توازن اللبنة الأساسية للشركات.
خلال عملي كاستشارية للعديد من شركات القطاع الخاص على مدى أكثر من 15 عاماً، لاحظت أن المفاهيم الأساسية بهذا الشأن قد تكون شبه معدومة أو غير مفعلة وهو ما ينتج عنه هدر بالفرص وإلغاء لعدد من المشاريع الطموحة وشطب للميزانيات وقد تتعمق هذه الفجوة مع تولي إدارات جديدة للمشاريع بدون دراية بحجم هذا الضرر على أعمالها وخططها المستقبلية.
لا يقتصر التميّز في بيئات العمل على المهارات التقنية أو الالتزام بالعمل؛ بل يشمل الوعي المالي أيضاً. ورغم التوقع من الموظفين تقديم قيمة وإدارة الوقت وتحسين الأداء، تظل الثقافة المالية غائبة، مع أنها مفتاح لاتخاذ قرارات واثقة، ونمو مهني أسرع، وتكوين فِرق عمل أكثر انسجاماً.
من تنفيذ المهام إلى وضع الاستراتيجيات والرؤى
يُطلب من الموظفين في مجالات كالهندسة والاستشارات والخدمات الإبداعية تتبّع ساعات عملهم يومياً. لكن قليلون من يدركون أن هذه الساعات ليست مجرد أرقام، بل مدخلات مالية تؤثر على التكاليف والربحية بشكل مباشر.
غالباً ما يُنظر إلى تتبّع الوقت كروتين إداري بحت، لا كجزء من جوهر العمل المهني. لكن حين يكون الموظفين على دراية بآليات تسعير الخدمات وقياس الأداء، يتشكل لديهم وعي أكبر ورؤية أوسع تربط قراراتهم اليومية بنتائج ملموسة.
إن هذا الإجراء ليس محصوراً بالمشاريع فقط؛ ففي أي مؤسسة، يؤدي الإلمام بكيفية توليد الإيرادات وضبط التكاليف إلى إعادة تعريف دور الفرد، وينقل الموظف من مجرد إداة لتنفيذ المهام إلى شريك استراتيجي في نجاح المؤسسة.
حين تُفهم الأرقام… يتغير التأثير في بيئة الأعمال
التفوّق في تنفيذ المهام لا يعني بالضرورة إدراك أثرها المالي داخل المؤسسة. لذلك، فإن دور الثقافة المالية يأتي لسد هذه الفجوة. فعند اقتراح زيادة في الميزانية أو منتج جديد، فإن من يملك فهماً للبيانات المالية والعوائد لا يُنظر إليه كمنفذ، بل كشريك في اتخاذ القرار؛ بمعنى أن الثقافة المالية هي الجسر بين الفكرة والتأثير الحقيقي.
في بيئات العمل العصرية المعتمدة على البيانات، تُعد المهارات المالية ميزة تنافسية حقيقية. حتى لمن لا يشغل منصباً مالياً، فإن فهم الميزانيات والتقارير النقدية يساهم في طرح أسئلة أعمق واتخاذ قرارات أكثر دقة وثقة.
فجوة بين الطموح والواقع المالي
رغم تطور بيئات العمل وزيادة تعقيدها، لا تزال هناك فجوة في الثقافة المالية داخل المؤسسات. بالتالي، يُفترض ضمنياً أن الموظفين سيتقنون المفاهيم المالية بمرور الوقت، لكن هذا التصوّر غير واقعي. وهذا يقودنا إلى نتيجة تتمثل بأن كثير من الكفاءات تصطدم بسقف مهني، ليس لأنهم يفتقرون إلى المهارة، بل لأنهم لم يحصلوا على فرصة لفهم الجانب المالي من أدوارهم.
كثيراً ما تأتي الترقية ومعها مسؤوليات مالية جديدة، دون تدريب أو أدوات. هذا التحوّل المفاجئ يربك الأفراد ويحدّ من تحقيق المؤسسات لأقصى استفادة ممكنة من كوادرها. لكن ماذا لو بدأنا مبكراً، وجعلنا الفهم المالي جزءاً من المسيرة المهنية منذ لحظتها الأولى، بالطبع فإن الواقع سيكون مختلفاً تماماً.
الفجوة في الثقافة المالية بين النساء والرجال في الشرق الأوسط
في هذا الصدد، كشفت دراسة أجرتها يو بي أس (UBS) بالتعاون مع منصة «سيدات أعمال العالم العربي»، أن 54% من النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعتبرن وعيهن بالثقافة المالية للاستثمار منخفضاً. يأتي ذلك رغم تزايد حجم الثروات التي تملكها النساء في المنطقة، مما يشير إلى وجود فجوة في التمكين المالي تتطلب معالجة واعية.
كثير من الشباب يدخلون سوق العمل وهم يشعرون بالرهبة من المفاهيم المالية، على من كونها جزءاً متوقعاً من أدوارهم. وفي منطقة الخليج، ومع وصول نسبة مشاركة النساء في سوق العمل السعودي إلى 36.2% في2025 بعد أن كانت 20% فقط في 2018، لم يعد تعزيز الثقافة المالية خياراً، بل ضرورة لتحقيق تمكين حقيقي وانتقال فعلي نحو القيادة.
الثقافة المالية لا ترتبط بالمنصب، بل بالتأثير
الثقافة المالية ليست حكراً على المدراء، بل هي مهارة ضرورية لكل موظف، من المبتدئ الذي يبحث عن أسباب توقف مشروع، إلى المحلل المسؤول عن ضبط التكاليف، وصولاً إلى خبير الموارد البشرية الذي يخطط للكوادر بناءً على الواقع المالي. الفهم المالي يعزز جودة القرار في كل مستوى.
أود الإشارة في الختام إلى أن دمج الثقافة المالية في مراحل التوظيف والتطوير والترقيات ينعكس بشكل مباشر على جودة الأداء، ويعزز الثقة، ويحفّز الفضول المهني. وفي بيئات العمل المتسارعة والديناميكية، يصبح الوعي المالي ضرورة لا غنى عنها.