تحسين كفاءة الطيف الترددي يوصلنا للحقبة المتقدمة من اتصالات الجيل الخامس

مقال ضيف بقلم ميكو لافانتي، النائب الأول للرئيس لشبكات الهاتف المحمول لدى نوكيا الشرق الأوسط وإفريقيا
مع انتشار اتصالات الجيل الخامس على نطاق واسع في منطقة الخليج، بات السؤال الأهم يدور حول مدى جودة أدائها. ولأن دور مشغلي خدمات الاتصالات لم يعد يقتصر على تقديم هذه الخدمات، فإن عليهم أيضاً تلبية التوقعات المتزايدة لجوانب مهمة كالسرعة والاستجابة وكفاءة استهلاك الطاقة.
في ظل المتطلبات سريعة التغير المفروضة على الشبكات، ينمو استهلاك بيانات الهاتف المحمول نمواً مطرداً في دولة الإمارات، جرّاء الاستخدام المتزايد للخدمات السحابية والتطبيقات الغنية بالبيانات. ومن المتوقع، بحلول عام 2029، أن يتجاوز حجم حركة البيانات 28 إكسابايت شهرياً في الإمارات، في اتجاه ينعكس على جميع أنحاء المنطقة، ولكنه يحظى بأهمية خاصة في دول مثل المملكة العربية السعودية، حيث من المتوقع أن يشهد سوق اتصالات الجيل الخامس نمواً سريعاً خلال السنوات القادمة. هذه المستجدات المرتقبة ليست مجرد تحوّلات تقنية، بل تعكس تغيراً أوسع في طرق عمل الاقتصادات وتوقعاتها المنشودة من شبكات الهاتف المحمول.
لماذا يتطلب «الاتصال الصاعد» اهتماماً متزايداً؟
في العديد من البيئات المؤسسية، لم يعد يكفي أن تتيح الشبكة عمليات تنزيل سريعة للبيانات فحسب، بل أصبح أداء الاتصال الصاعد (Up Link) يحظى بالقدر نفسه من الأهمية، لا سيما في قطاعات مثل الخدمات اللوجستية، والتصنيع، والرعاية الصحية، والمراقبة والتفتيش باستخدام المسيرات، ومنافسات الألعاب المباشرة، حيث تُعد الرؤية اللحظية والنقل المستمر للبيانات من الأمور المهمة لأداء الوظائف والارتقاء بتجربة المستخدم. هذه المكاسب المتعلقة بالاتصال الصاعد تُعد بالغة الأهمية في ضوء استمرار زخم الجيل الخامس بوجود 1.6 مليار اتصال يعتمد على هذه التقنية حول العالم، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 5.5 مليار بحلول عام 2030، وفقاً للتقرير الصادر عن وحدة المعلومات GSMA Intelligenceالتابعة للرابطة العالمية لمشغلي الهواتف المحمولة.
في قطاع الخدمات اللوجستية، تُجسّد الموانئ الذكية هذا التحدي تجسيداً واضحاً؛ إذ غالباً ما تعتمد الرافعات وأنظمة النقل وفرق العمليات على بث الفيديو بجودة عالية لتنسيق الحركة بأمان وكفاءة. فمثلاً، يتطلب البث بتقنية 4K عادةً عرض نطاق ترددي صاعد يبلغ حوالي 25 ميغابت في الثانية لضمان سلاسة الأداء. لكن عندما يواجه هذا البث الصاعد أي تأخير أو تذبذب، حتى لو كان بسيطاً، نجد أن الإنتاجية تتأثر، والمخاطر تزداد بالتالي. في هذه البيئات، تؤثر موثوقية الشبكة تأثيراً مباشراً في الإنتاجية والسلامة، لذلك لم تعد جودة البث الصاعد مجرد مقياس تقني، بل أصبحت مؤشر أداء رئيساً بالغ الأهمية للأعمال.
كذلك في حالة منافسات الألعاب المباشرة، فإن أي تأخر في الاستجابة أثناء الاتصال الصاعد، مهما كان صغيراً، قد يُعطّل اللعب، ويُقلل من تفاعل المستخدمين، ويؤثر في نتائج المنافسات. لذا، ومع تحول المزيد من الألعاب إلى المنصات السحابية التي تتيح تفاعلاً فورياً، أصبح الاتصال الصاعد المستقر والمتجاوب مطلباً أساسياً.
تحسين كفاءة الطيف الترددي يتيح سعة أكبر
لا يتطلب تحسين أداء الاتصال الهابط أو الصاعد دائماً استخدام طيف ترددي جديد أو بنية تحتية إضافية، بل غالباً ما يعتمد الأمر على استخدام الموارد المتاحة بكفاءة أكبر.
من أهم المزايا التي تُحسّن أداء الاتصال الهابط تقنية «تضمين سعة التربيع 1024» (1024 QAM)، إذ تزيد كمية البيانات التي يُمكن نقلها عبر النطاق الترددي نفسه، من خلال زيادة عدد البتات لكل رمز. عملياً، يمكن أن تعزز هذه التقنية معدل النقل بنسبة تصل إلى 25% مقارنةً بأنظمة التضمين السابقة مثل 256 QAM. تُحسّن تقنية 1024 QAMأداء الاتصال الهابط وتُحسّن كفاءة الطيف الترددي مع اقترابنا من حقبة الجيل الخامس المتقدم.
في أحد أعمالنا الحديثة، لاحظنا كيف كان أداء 1024 QAM أداءً حسناً في إحدى البيئات التجارية التي تعتمد على تقنية الجيل الخامس. وفي تجربة ناجحة أُجريت في دولة الإمارات عبر طيف ترددي متوسط النطاق على شبكة نشطة، حصلنا على قيم مرجعية مفيدة، إذ وصلت سرعات التنزيل إلى 6.2 غيغابت في الثانية باستخدام 290 ميغاهرتز من الطيف في طيفَي n41 وn78. وجاءت النتيجة الواقعية متمثلة في إمكانية تجربة ذلك في بيئة تُشكّلها متطلبات الشبكة اليومية، وهو ما أظهر أن 1024 QAM يُمكن أن يتناسب مع الاستخدامات الحالية، محققاً التوازن بين الأداء والطيف والطاقة.
علاوة على ذلك، ولتحسين أداء الاتصال الصاعد، تمثل أحد الإنجازات الرئيسة في تجربة «تجميع حاملات الاتصال الصاعد 3TX»، التي أُجريت مع «دو» في يوليو 2024، ونجحت في تعزيز أداء الاتصال الصاعد بنسبة تصل إلى 70% على شبكات الجيل الخامس المتقدمة.
الموازنة بين الأداء وكفاءة استهلاك الطاقة
يُعد ارتفاع معدل نقل البيانات أمراً بالغ الأهمية، ولكن ليس إذا كان ذلك على حساب استهلاك غير مستدام للطاقة، وهي المعادلة التي يواجهها المشغلون عند استخدامهم تقنيات تضمين وراديو أكثر تقدماً.
يتطلب التضمين العالي، مثل 1024 QAM، طاقة إضافية للحفاظ على جودة الإشارة، ما يمثل تحدياً للمشغلين الذين يديرون موازنات كبيرة للطاقة على اتساع شبكاتهم، لا سيما في المناطق كثيفة السكان. وتُبذل حالياً جهود لتحسين استهلاك أجهزة الراديو الشبكية للطاقة، ينصبّ فيها التركيز على الحفاظ على الأداء دون زيادة غير متناسبة في استهلاك الطاقة. ويُعد هذا التوازن أمراً أساسياً لتوسعة نطاق الأداء على امتداد الشبكات الكبيرة دون المساس بأهداف الاستدامة.
من التجربة إلى التطبيق القابل للتوسعة
جاءت التجربة الميدانية التي أظهرت قدرات 1024 QAM ثمرة عمل منسق بين موردي تقنيات الشبكات ومطوري الأجهزة وإحدى شركات الاتصالات الإقليمية. لم يقتصر هذا الإنجاز على السرعات التي تم تحقيقها، بل امتد أيضاً إلى سياقه. لقد أُجريت التجربة على شبكة تجارية عاملة تستخدم طيف نطاق متوسط التردد، ما يجعلها ذات علاقة مباشرة بعمليات الاستخدام المستقبلية في أنحاء المنطقة.
تزداد أهمية هذا التعاون مع سعي المشغلين إلى دمج المزايا الجديدة في الشبكات الحية بسرعة أكبر، لذلك فإن تعقيد بيئات شبكات النفاذ الراديوي (RAN) الحالية يعني أن التقدم في الأداء يعتمد على التوافق المتحقق على امتداد المنظومة التكنولوجية، ما يجعل التحقق الميداني يختصر الطريق المؤدي من البحث إلى التنفيذ.
مواكبة الطموحات الوطنية
تحمل تحسينات الأداء هذه في طياتها آثاراً اقتصادية واسعة، فوفقاً لتقرير صادر عن شركة الأبحاث ABI، يُنتظر أن تُسهم تقنية الجيل الخامس بما قيمته 508 مليارات دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030. وفي دولة الإمارات، تهدف الاستراتيجية الوطنية للاقتصاد الرقمي إلى مضاعفة إسهام الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2031. ومن أجل دعم هذا النمو، تحتاج الدولة إلى شبكات جوال متاحة على نطاق واسع، تكون قادرة على دعم الخدمات الأساسية باستمرارية وزمن استجابة منخفض. واستكمالاً لذلك، تُركز رؤية «نحن الإمارات 2031» على تحويل الدولة إلى مركز عالمي للابتكار والتكنولوجيا والاقتصاد الجديد.
إن من شأن التحسينات في أداء الاتصال الصاعد وكفاءة الطيف الترددي أن تُسهم إسهاماً مباشراً في هذا التطور المنشود، لا في دولة الإمارات وحدها، وإنما في جميع أنحاء منطقة الخليج، حيث تضع الاستراتيجيات الوطنية، مثل رؤية السعودية 2030 وأجندة قطر الرقمية 2030، البنية التحتية الرقمية في صميم أجندات التنويع الاقتصادي والتنافسية. ومع مضي هذه الدول قدماً في مسيرة التحول الرقمي واسع النطاق، سوف نرى عمليات توظيف لهذه التقنيات تتسم بالأداء العالي وبقابلية التوسع وبالكفاءة في استهلاك الطاقة، بحيث تصبح مؤهلة لاكتساب زخمٍ وتحقيق قيمةٍ طويلة الأجل.
استشراف المستقبل: عندما تغدو الكفاءة ضرورةً استراتيجية
مع استمرار الشبكات في النضج والتطور، ينتقل التركيز من خرائط التغطية إلى نتائج قابلة للقياس، إذ أصبح مشغلو الاتصالات يخضعون للتقييم بناءً على الأداء والاستدامة والقدرة على التكيّف. وهنا، نجد أن تقنيات شبكية، مثل 1024 QAM، تلعب دوراً مهماً في هذا التحول، ما يُمكّن المشغلين من تحقيق قيمة أكبر من البنية التحتية الحالية والقدرات الكامنة في نطاق الطيف الترددي.
إن التطبيقات المؤسسية، مثل البث المباشر للواقع الافتراضي، والخدمات اللوجستية الذكية، والأتمتة، والتحليلات الفورية، سوف تعتمد على أداء الاتصال الصاعد بطرق لم تكن بالأهمية ذاتها خلال المراحل السابقة من تطور الاتصالات المتنقلة. ولعلّ تلبية هذه الحاجة الآن تُمكّن الشبكات من دعم النمو المستقبلي دون الحاجة إلى إعادة الاستثمار مراراً في أجهزةٍ جديدة أو طيفٍ ترددي مختلف.
لم تعد الكفاءة فقط ميزة داعمة، بل أصبحت عنصراً أساسياً في كيفية تنافس الشبكات وتطورها وتقديمها للقيمة.